ترمب والسياسة الخارجية الأمريكية- ردع عن بعد وهيمنة بتكلفة صفرية
المؤلف: طلال صالح بنان10.05.2025

تعتمد السياسة الخارجية الأمريكية في الحقبة الثانية لإدارة الرئيس دونالد ترمب على استراتيجية ردع عن بعد محتملة. يهدف الرئيس ترمب، من خلال هذه الدبلوماسية التي يكتنفها الغموض، إلى أن تنتهج إدارته سياسة خارجية بأقل التكاليف الباهظة الممكنة، مع تحقيق أقصى عائد ممكن. إنها مقاربة رأسمالية بحتة لإدارة السياسة الخارجية للدولة الأقوى على وجه البسيطة.
يرى الرئيس ترمب أنه ليس بحاجة، لتطبيق هذه المقاربة على السياسة الخارجية لبلاده، لا إلى القوة الصلبة بكل ما تملكه من إمكانيات ردعية هائلة، ولا إلى القوة الناعمة ذات الإمكانات المتعددة واللينة. بعبارة أخرى: لا يطمح الرئيس ترمب، في إدارة السياسة الخارجية لبلاده، إلى استخدام لا العصا ولا الجزرة. فهو لا يرغب في إرسال جنوده إلى الخارج، حتى ولو كان ذلك مجرد تلويح بالعصا، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لبلاده في الساحة الدولية، كما أنه لا يود إنفاق ولو سنتًا واحدًا لدفع تكلفة تحقيق أهداف سياسته الخارجية، حتى لو كان الأمر متعلقًا بفرض الهيمنة الكونية الحصرية لواشنطن على النظام الدولي.
يبدو أن الرئيس ترمب يمتلك مفهومًا مغايرًا لحالة الهيمنة الكونية، التي حكمت من خلالها واشنطن النظام الدولي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية ولايته الثانية، منذ العشرين من يناير المنصرم. من أهم شروط الهيمنة الكونية لأي قوة عالمية تتنافس على هذه المكانة السامية، دفع تكلفة التزاماتها، بقدر ما هو الأمر في توقع جني عوائدها. فلا يمكن تحقيق هيمنة كونية لأي قوة عظمى دون تحمل تكلفتها، ولا يمكن توقع التمتع بعوائد امتيازاتها، دون الالتزام بالقيام بمسؤولياتها الأممية.
لقد كانت جميع الدول العظمى، التي تنافست على مكانة الهيمنة الكونية، في عصور الأنظمة الدولية الحديثة المتتالية، منذ نهاية القرن الخامس عشر، الذي شهد موجة الاكتشافات الجغرافية غرب المحيط الأطلسي، من الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، وصولًا إلى البريطانيين، ومن ثمَّ إلى نظام الأمم المتحدة الحالي، تعتمد في تبوؤ هذه المكانة الدولية الرفيعة والحفاظ عليها، على «الكرم» لا «البخل»، في دفع تكلفتها.
على الرغم من الدعوات الصاخبة للعودة إلى العزلة، بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت الولايات المتحدة حقيقة خطئها الجسيم في عدم دفع تكلفة مكانة الهيمنة الكونية، التي وجدت نفسها فيها بعد الحرب العظمى (1914-1919)، والذي تجلى في عدم انضمامها إلى عصبة الأمم (1919-1939)، على الرغم من أنها من وضعت ميثاقها، في ما عُرف بمبادئ ويلسون الأربعة عشر. وكانت النتيجة أن اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بعد عقدين فقط من عمر نظام عصبة الأمم غير المستقر.
لم ترغب واشنطن في تكرار هذا الخطأ، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقيادتها، عندما تعهدت بإعادة إعمار أوروبا، وكتبت ميثاق نظام الأمم المتحدة الحديث، ووضعت أسس ومؤسسات نظامه الاقتصادي، بموجب اتفاقية بريتون وودز (يوليو 1944)، التي اتخذت من الدولار عملة التبادل التجاري الوحيدة المقبولة في العالم، بعد أن كان الجنيه الإسترليني، الذي كان يعتمد على نظام الذهب، يحكم اقتصاد العالم لمئة عام (1815-1914)، بل وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، في ما عُرف بالعهد البريطاني (Pax Brittanica).
واليوم، يتكرر نفس الخطأ (الاستراتيجي)، الذي ارتكبته الولايات المتحدة بعد الحرب العظمى، بعد ما يقرب من ثمانين عامًا من عهد نظام الأمم المتحدة الحالي. حيث تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى التحلل من التزاماتها تجاه حلفائها التقليديين في أوروبا، بل وتطالبهم بتكلفة حمايتهم تحت المظلة النووية الأمريكية، وبأثر رجعي، بما في ذلك المطالبة بتكاليف إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، وبأثر رجعي أيضًا! بل إنها تعمل على الانسحاب من عضوية الأمم المتحدة!
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن واشنطن تعتزم التوسع شمالًا وشرقًا، على حساب حلفائها التقليديين في أوروبا وجيرانها القاريين، في كندا والمكسيك وحِمَى حديقتها الخلفية، كما يتجلى في التهديد باستعادة قناة بنما... بل وتتطلع إلى ثروات حلفائها في أوروبا، مثلما هي عينها على ثروات أوكرانيا المعدنية، كثمن لوقف الحرب الروسية عليها، دون أية التزامات أمنية لكييف، بالإضافة إلى دفع ثمن المساعدات العسكرية، التي قدمتها واشنطن لكييف، منذ نشوب الحرب، وإلى أن تضع الحرب أوزارها.
باختصار: تنتهج واشنطن في ولاية الرئيس ترمب الحالية (الثانية)، سياسة خارجية تعتمد على عائدات استثماراتها الأمنية الممتدة، بحسابها (نقداً)، وعلى إمكاناتها التكنولوجية المتقدمة، جنبًا إلى جنب مع غناها الاقتصادي المتنوع، في فرض هيمنتها الكونية على العالم، بأدوات ردع تراها فعالة، ولا تعتمد بالضرورة على احتمال استخدام قوتها الصلبة ولا الناعمة، لفرض هيمنة كونية (منفردة) على العالم، دون تكلفة تُذكر، لا دفاعية ولا اقتصادية، ولا حتى تكنولوجية. ردع يبدو لواشنطن فعالًا، دون الحاجة إلى أن تكون له مخالب وأنياب صلبة، ولا حتى قفازات مخملية ناعمة.
في ظل غياب قوة كونية حقيقية وفاعلة على الساحة الدولية، تدخل مضمار المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية الرفيعة، يبدو أن الرئيس ترمب سيواصل استراتيجية جديدة لمؤسسات النظام الدولي، كما هو نهجه في تغيير استراتيجية مؤسسات نظام بلاده الديمقراطي، وفي مقدمتها الدستور، بحجة تطهيرها من الفساد.
يرى الرئيس ترمب أنه ليس بحاجة، لتطبيق هذه المقاربة على السياسة الخارجية لبلاده، لا إلى القوة الصلبة بكل ما تملكه من إمكانيات ردعية هائلة، ولا إلى القوة الناعمة ذات الإمكانات المتعددة واللينة. بعبارة أخرى: لا يطمح الرئيس ترمب، في إدارة السياسة الخارجية لبلاده، إلى استخدام لا العصا ولا الجزرة. فهو لا يرغب في إرسال جنوده إلى الخارج، حتى ولو كان ذلك مجرد تلويح بالعصا، لتحقيق أهداف السياسة الخارجية لبلاده في الساحة الدولية، كما أنه لا يود إنفاق ولو سنتًا واحدًا لدفع تكلفة تحقيق أهداف سياسته الخارجية، حتى لو كان الأمر متعلقًا بفرض الهيمنة الكونية الحصرية لواشنطن على النظام الدولي.
يبدو أن الرئيس ترمب يمتلك مفهومًا مغايرًا لحالة الهيمنة الكونية، التي حكمت من خلالها واشنطن النظام الدولي، في أعقاب الحرب العالمية الثانية، وحتى بداية ولايته الثانية، منذ العشرين من يناير المنصرم. من أهم شروط الهيمنة الكونية لأي قوة عالمية تتنافس على هذه المكانة السامية، دفع تكلفة التزاماتها، بقدر ما هو الأمر في توقع جني عوائدها. فلا يمكن تحقيق هيمنة كونية لأي قوة عظمى دون تحمل تكلفتها، ولا يمكن توقع التمتع بعوائد امتيازاتها، دون الالتزام بالقيام بمسؤولياتها الأممية.
لقد كانت جميع الدول العظمى، التي تنافست على مكانة الهيمنة الكونية، في عصور الأنظمة الدولية الحديثة المتتالية، منذ نهاية القرن الخامس عشر، الذي شهد موجة الاكتشافات الجغرافية غرب المحيط الأطلسي، من الإسبان والبرتغاليين والفرنسيين، وصولًا إلى البريطانيين، ومن ثمَّ إلى نظام الأمم المتحدة الحالي، تعتمد في تبوؤ هذه المكانة الدولية الرفيعة والحفاظ عليها، على «الكرم» لا «البخل»، في دفع تكلفتها.
على الرغم من الدعوات الصاخبة للعودة إلى العزلة، بعد الحرب العالمية الثانية، أدركت الولايات المتحدة حقيقة خطئها الجسيم في عدم دفع تكلفة مكانة الهيمنة الكونية، التي وجدت نفسها فيها بعد الحرب العظمى (1914-1919)، والذي تجلى في عدم انضمامها إلى عصبة الأمم (1919-1939)، على الرغم من أنها من وضعت ميثاقها، في ما عُرف بمبادئ ويلسون الأربعة عشر. وكانت النتيجة أن اندلعت الحرب العالمية الثانية (1939-1945)، بعد عقدين فقط من عمر نظام عصبة الأمم غير المستقر.
لم ترغب واشنطن في تكرار هذا الخطأ، بعد انتصار الحلفاء في الحرب العالمية الثانية بقيادتها، عندما تعهدت بإعادة إعمار أوروبا، وكتبت ميثاق نظام الأمم المتحدة الحديث، ووضعت أسس ومؤسسات نظامه الاقتصادي، بموجب اتفاقية بريتون وودز (يوليو 1944)، التي اتخذت من الدولار عملة التبادل التجاري الوحيدة المقبولة في العالم، بعد أن كان الجنيه الإسترليني، الذي كان يعتمد على نظام الذهب، يحكم اقتصاد العالم لمئة عام (1815-1914)، بل وحتى اندلاع الحرب العالمية الثانية، في ما عُرف بالعهد البريطاني (Pax Brittanica).
واليوم، يتكرر نفس الخطأ (الاستراتيجي)، الذي ارتكبته الولايات المتحدة بعد الحرب العظمى، بعد ما يقرب من ثمانين عامًا من عهد نظام الأمم المتحدة الحالي. حيث تسعى الولايات المتحدة اليوم إلى التحلل من التزاماتها تجاه حلفائها التقليديين في أوروبا، بل وتطالبهم بتكلفة حمايتهم تحت المظلة النووية الأمريكية، وبأثر رجعي، بما في ذلك المطالبة بتكاليف إعادة إعمار أوروبا بعد الحرب، وبأثر رجعي أيضًا! بل إنها تعمل على الانسحاب من عضوية الأمم المتحدة!
لا يتوقف الأمر عند هذا الحد، بل إن واشنطن تعتزم التوسع شمالًا وشرقًا، على حساب حلفائها التقليديين في أوروبا وجيرانها القاريين، في كندا والمكسيك وحِمَى حديقتها الخلفية، كما يتجلى في التهديد باستعادة قناة بنما... بل وتتطلع إلى ثروات حلفائها في أوروبا، مثلما هي عينها على ثروات أوكرانيا المعدنية، كثمن لوقف الحرب الروسية عليها، دون أية التزامات أمنية لكييف، بالإضافة إلى دفع ثمن المساعدات العسكرية، التي قدمتها واشنطن لكييف، منذ نشوب الحرب، وإلى أن تضع الحرب أوزارها.
باختصار: تنتهج واشنطن في ولاية الرئيس ترمب الحالية (الثانية)، سياسة خارجية تعتمد على عائدات استثماراتها الأمنية الممتدة، بحسابها (نقداً)، وعلى إمكاناتها التكنولوجية المتقدمة، جنبًا إلى جنب مع غناها الاقتصادي المتنوع، في فرض هيمنتها الكونية على العالم، بأدوات ردع تراها فعالة، ولا تعتمد بالضرورة على احتمال استخدام قوتها الصلبة ولا الناعمة، لفرض هيمنة كونية (منفردة) على العالم، دون تكلفة تُذكر، لا دفاعية ولا اقتصادية، ولا حتى تكنولوجية. ردع يبدو لواشنطن فعالًا، دون الحاجة إلى أن تكون له مخالب وأنياب صلبة، ولا حتى قفازات مخملية ناعمة.
في ظل غياب قوة كونية حقيقية وفاعلة على الساحة الدولية، تدخل مضمار المنافسة على مكانة الهيمنة الكونية الرفيعة، يبدو أن الرئيس ترمب سيواصل استراتيجية جديدة لمؤسسات النظام الدولي، كما هو نهجه في تغيير استراتيجية مؤسسات نظام بلاده الديمقراطي، وفي مقدمتها الدستور، بحجة تطهيرها من الفساد.